قالت الطفلة ذات الأعوام الأربعة لأمها الأستاذة الجامعية: هل سيكون حفل زفافي على هذا النحو؟ ضحكت الأم وضحك معها الأب والد الطفلة، ومن يجلس معهم إلى الطاولة، وقالوا: يبدو أنّ هذه الليلة انطبعت في ذاكرتها إلى الأبد! كان هذا المشهد جزءاً مما جرى على هامش حفل العرس الفلسطيني، الذي أقيم قبل أيّام بتنظيمٍ من اللجنة الاجتماعية الفلسطينية في أبوظبي. ولعل هذا المشهد إذا ما عرَف به منظمو الحفل سيجسد لهم إحدى الثمرات التي أرادوا الوصول إليها من إقامة مثل هذا الحفل؛ فقد اجتمع على الشاطئ في أبوظبي ما يزيد عن 700 شخص توافدوا من سائر أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة، فيما بقي عشرات خارج مكان العرس؛ بسبب عدم استيعاب المكان المقرر للمزيد من الحضور، ولنفاد تذاكر الحفل. ولعل الرسالة التي التقطتها الطفلة، التي تؤكد وجود تراث فلسطيني حي ينبض بالحياة والفرح والنماء، وأنه جانب من هويةٍ تتناقلها الأجيال الفلسطينية أينما حلت حفاظاً على روابط مجتمعها وطقوسه إلى حين العودة، التي تبدو أكيدة مع قدرة الفلسطينيين على ابتداع وسائل للصمود بأنماطه المختلفة، ثقافياً، وسياسياً، واقتصادياً، ومعنوياً، ومادياً. سألتُ أحد شباب أعضاء اللجنة المنظمة عن أسباب تنظيم هذا الحفل، ويبدو أنّه كان متوقعاً ومستعداً للسؤال، فأشار إليَّ بكتيِّب صغير موزع على طاولات الحضور، وفهمت منه أنّ هذا الكتيِّب استغرق إعداده أسابيع من حيث توثيق المادة وقراءة المراجع الخاصة بتقاليد العرس الفلسطيني، فقال: نحن أولاً نوثق هنا تاريخاً وأنثروبولوجيا، ونؤكد وجودنا كمجتمع تطورت عاداته وتقاليده عبر التاريخ، وإنّ هذا العرس بفقراته التراثية التي تحاكي طقوس الزواج في فلسطين، أشبه بتنفيذ مخطط استغرقت دراستُه عدة أشهر، وتم تدوينه في هذا الكتيِّب. أما ثانياً، فنحن نريد أن نؤكد أنّنا نتفاعل إيجابياً أينما حللنا، وأنّ الجيل الفلسطيني الجديد قادر على تلمس طريقه، فهذا العام 2008، هو عام "الهوية الوطنية" في الإمارات لذا وبما أنّ الهوية الفلسطينية، جزء من هوية عربية واحدة، وبما أنه في صلب الهوية الإماراتية الانفتاح المؤثر على مجمل الثقافات، وبما أننا نشعر بالجميل الكبير لهذا البلد ونشعر أننا محظوظون بوجودنا في الإمارات في هذه المرحلة من عمرها ونمائها وازدهارها، فإننا أردنا أن نسهم بطريقتنا في فعاليات هذا العام. وأضاف قائلاً: أما ثالثاً، فنحن نؤكد قدرتنا على تحويل غربتنا وعذاباتنا وشتاتنا وفرحنا أيضاً إلى هوية نضالية، فالمخيم الفلسطيني أينما وجد أصبح جزءاً من هوية نضالية، ونحن نريد أن نقول أيضاً إن طقوس العمران البشري كما تطورت فلسطينياً ستستمر وسنحولها لجزء من أدواتٍ دبلوماسية شعبية فلسطينية بغض النظر عن خلافات السياسيين والفصائل والقادة، فالشعب أسمى من تلك الانقسامات. وقال: نحن هنا جميعنا، مهنيون ولسنا سياسيين، لنا مهننا التي نفتخر بها من الهندسة، إلى الكمبيوتر، إلى التعليم، إلى التمريض، وأشار إلى فتاة كانت تغني للعروس في ليلة الحناء، مشيراً إلى درجتها العلمية العالية. وقال: العرس جزء من نشاط يشمل محاولتنا كأفراد المساهمة في أي نشاط بنّاء من مثل حملات مد يد المساعدات للأسر الفلسطينية المحتاجة التي ينظمها الهلال الأحمر الإماراتي، ومن خلال الندوات والمحاضرات ودورات التدريب على الحرف اليدوية الفلسطينية وفي مجال الإدارة واللغة والإعلام، وتفاعلنا بالنشاطات الرياضية وحملات التوعية الصحية وما إلى ذلك في الإمارات، وبما يخدم مجتمع الإمارات بسكانه من شتى الجنسيّات. لا أدري إلى أي مدى كان حديث هذا الشاب تعبيراً عن عقل جمعي، وإلى أي حد يعي تفاصيل ما يقول تماماً من الناحية العلمية؟ ولكن ما أعرفه هو أنّ هذا التفكير خلاق بما يكفي لاستيعاب "الهوية" باعتبارها علماً من العلوم، وهو تجسيد لفكر بنّاء قادر على الإبداع والحياة إذا ما سنحت له الفرصة، ويعكس قدرة على فهم أن دروب النضال ووسائله وطرقه لحفظ الحقوق والحصول عليها، هي بالتأكيد دروب متعددة. د. أحمد جميل عزم aj.azem@gmail.com